أكبر حصون الرومان بالخارجة.. "دير المنيرة" يحكي قصص طريق تجاري عمره آلاف السنين -صور
-
عرض 5 صورة
-
عرض 5 صورة
-
عرض 5 صورة
-
عرض 5 صورة
-
عرض 5 صورة
الوادي الجديد – محمد الباريسي:
على بعد نحو 23 كيلومترًا شمال مدينة الخارجة في قلب الصحراء الغربية، يقف حصن دير المنيرة شامخًا كأحد أكبر الحصون الرومانية في واحة الخارجة، حارسًا صامتًا لطريق صحراوي تاريخي يربط بين وادي النيل وفرشوط، يحمل بين جدرانه قصصًا عتيقة امتدت عبر أكثر من 1700 عام.
يُعرف الموقع أيضًا بحصن الدير أو دير الغنايم، ويتضمن معبدًا رومانيًا مبنيًا من الطوب اللبن، قرب الحصن الذي يشكل معلمًا أثريًا فريدًا في المنطقة، بحسب دراسات المعهد الفرنسي للآثار الشرقية، "يرتبط تاريخ بناء الحصن بفترة حكم الإمبراطور دقلديانوس (284-305 ميلادية) أو أحد خلفائه، حيث جرى تشييده كحصن عسكري لحماية الطرق الصحراوية الحيوية."
بناء الحصن وتحولاته عبر العصور
قال الأثري محمد إبراهيم مدير الآثار بالوادي الجديد، لمصراوي، إن الحصن يأخذ شكلًا مربعًا بمتوسط أبعاد تتراوح بين 74 و75 مترًا لكل جانب، مع جدران مرتفعة يصل ارتفاعها إلى 12.5 مترًا وعرضها 3.6 مترًا في الأعلى، ما جعله أحد أهم التحصينات العسكرية في المنطقة.
وأوضح، أنه تتوزع على جدرانه اثنا عشر برجًا نصف دائري، يبلغ قطر بعضها ما بين 6.7 و7.4 مترًا، متصلة عبر حاجز يمتد على طول الجزء العلوي من الجدران، مع سلالم داخلية تصل إلى المصاعد على الجدار الجنوبي والشمالي.
وأضاف أن، مدخل الحصن الوحيد المحتمل كان يقع على الجانب الغربي، وفي وسط الفناء الداخلي يقع بئر عميق كان يزود الحامية بالمياه، ما يعكس التخطيط العسكري الذكي الذي يسمح بالاستمرارية حتى في أوقات الحصار، كما جرى استخدام نظام متطور من القنوات الجوفية التي ربطت الحصن بالمباني الخارجية والحقول المزروعة حوله، ما يدل على إدارة متقدمة لموارد المياه والزراعة في المنطقة الصحراوية القاحلة.
دور الحصن في العصور المتأخرة
أكد الخبير الأثري، بهجت أبو صديرة، مدير الآثار بالوادي الجديد السابق، أنه يُعتقد أن الحصن تحول إلى دير في مرحلة لاحقة من تاريخه، وهو ما يبرر اسمه الحالي دير المنيرة، وكانت القوات البريطانية قد استغلت الحصن والمنطقة المحيطة به خلال الحرب العالمية الأولى ضمن حملتها ضد قوات السنوسيين، كما تؤكد النقوش الحديثة التي خلفها الجنود البريطانيون على جدران الحصن.
استكشافات الرحالة والباحثين الأوائل
قال بهجت، إنه قد عرف الحصن اهتمام العديد من الرحالة الأوروبيين الذين وصفوه بدقة، لعل أشهرهم السير أرشيبالد إدمونستون (1795-1871) الذي أشاد بسعة الحصن وحجمه الكبير، أما مجمع المعبد الروماني القريب فقد ورد وصفه لأول مرة في عام 1874 على يد الباحث الألماني يورغ شفاينفورت (1836-1925)، وفي ثلاثينيات القرن العشرين، أجرى عالم الآثار الألماني رودولف ناومان (1910-1996) مسحًا أوليًا للموقع، ممهداً الطريق أمام الدراسات والتنقيبات الحديثة التي جرت بعد ذلك.
عمليات المسح والتنقيب الحديثة
أضاف بهجت، أنه جرى بين عامي 1997 و2002 عدة حملات مسح وتنقيب بقيادة فريق "ألفا نيكروبوليس" بالتعاون مع المعهد الفرنسي للآثار الشرقية، أسفرت عن اكتشافات أثرية مهمة زادت من فهمنا لهذا الموقع التاريخي، أظهر مسح عام 1997 وجود ثلاث مناطق دفن في الجنوب والشمال والشرق من الحصن، بينما عُثر في التنقيبات التي جرت عام 1998 في القطاع الجنوبي على ثمانية مقابر منهوبة وتوابيت خشبية ورفات بشرية، إلى جانب أثاث جنائزي تقليدي.
وقال بهجت، غنه في مواسم التنقيب اللاحقة في القطاع الشمالي، عُثر على 35 مقبرة و19 تابوتًا من الحجر الجيري الأبيض، بعضها يحتوي على جثث محنطة محفوظة جيدًا ومدفونة في وضعية أوزوريس الشهيرة بأذرع متقاطعة فوق الصدر، كما تشير الأدلة إلى أن هذه المدافن تعود إلى الفترة الممتدة بين القرنين الثالث والخامس الميلادي، وهي فترة انتقالية مهمة شهدت انتشار المسيحية وتطور الطقوس الجنائزية."
اكتشافات حول المومياوات والطقوس القبطية
في عام 2002، أجرى المعهد الفرنسي للآثار الشرقية تحت إشراف فرانسواز دوناند أعمال تنقيب واسعة في محيط دير المنيرة، شملت العثور على مقابر قبطية وأكفان ملونة، إضافة إلى مومياوات كلاب محفوظة بحالة جيدة.
وحول هذه الظاهرة، أوضح مدير الأثار المصرية بالوادي الجديد، محمد إبراهيم، أن مومياوات الكلاب كانت تستخدم كقرابين نذرية للمعبود أنوبيس، إله الموتى وحامي المقابر، الذي كان يُعبد في مناطق أبيدوس وأسيوط، فيما توصل الباحثون إلى أن هذه العبادة امتدت إلى مناطق واحة الخارجة عبر المسارات الصحراوية، هذا الاكتشاف يعزز الرؤية التي تفيد بأن دير المنيرة كان مركزًا دينيًا هامًا يدمج بين المعتقدات الفرعونية القديمة والديانات المسيحية الأولى في المنطقة.
الحصن اليوم: شاهد صامت على تاريخ عريق
يعد حصن دير المنيرة شمال جبل أم الغنايم أحد أبرز معالم منخفض الخارجة، ويقع على بعد 20 كيلومترًا شمال شرق معبد هيبس و9 كيلومترات شرق قرية المنيرة.
وعلى الرغم من مرور قرون طويلة على بناء الحصن، إلا أن جدرانه لا تزال قائمة، وتحكي النقوش التي تركها الجنود البريطانيون في الحرب العالمية الأولى فصولًا جديدة من التاريخ، حيث استخدم الحصن قاعدة استراتيجية ضمن حملاتهم ضد السنوسيين.
أشار مدير آثار الوادي الجديد، إلى أن "حصن دير المنيرة يعكس الاندماج الفريد بين التراث الروماني، الديني، والعسكري في الصحراء الغربية، وهو مثال حي على التنوع الحضاري في مصر القديمة."
الحفاظ على الموقع واستمرارية الأبحاث
يؤكد منصور إبراهيم، الخبير الآثري بالوادي الجديد، ضرورة حماية الموقع من التدهور، ويطالبون بزيادة الدعم لإجراء المزيد من الدراسات الأثرية التي قد تكشف عن أسرار إضافية.
ويشير منصور، إلى أن الموقع لم يُستغل بالكامل بعد، وهناك العديد من القطع الأثرية التي قد تكشف المزيد عن حياة الجنود الرومان، وكذلك الطقوس الدينية التي جرت في المنطقة، كما يبرز الحصن كوجهة سياحية وتاريخية هامة يمكن أن تسهم في تنمية المنطقة اقتصاديًا وثقافيًا.
ويظل حصن دير المنيرة شاهدًا خالدًا على تاريخ عميق من التفاعل الحضاري بين الإمبراطورية الرومانية، الديانات المحلية القديمة، والحقب الحديثة التي مرت بها مصر، من بناء الإمبراطور دقلديانوس، مرورًا بالرحالة الأوروبيين، وانتهاءً بالاستخدام العسكري البريطاني، يحمل الحصن بين جدرانه تاريخًا غنيًا يستحق المزيد من الدراسة والحفظ.
فيديو قد يعجبك: