إعلان

"مقامرة اضطرارية".. كيف كانت رحلة العائدين إلى السودان؟

06:43 م الإثنين 14 أبريل 2025

العائدون إلى السودان

-مارينا ميلاد:

10 إبريل 2025- معبر أشكيت، عَبر "ياسر" ضفة النيل بأسوان، وانضمت حافلته إلى طابور كبير من الحافلات المتراصة في المنطقة الفاصلة بين الجانبين المصري والسوداني. وداخلها، مئات السودانيين المكدسين معه.

أراد "ياسر"، الثلاثيني أن يختبر واقع بلده وحده بعد أن حقق الجيش السوداني عدة انتصارات وسيطر على العاصمة مؤخرًا. فيما تبقى أسرته في مصر.

في أيام مماثلة قبل عامين، كان "ياسر" يستقل حافلة بالاتجاه الآخر، سالكة طريقها نحو مصر، هربًا من الحرب التي اندلعت بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع. ساعتها، عبَر مع نحو 4 ملايين شخص إلى الدول المجاورة (بحسب تقديرات الأمم المتحدة). اقرأ: الطريق إلى المعبر 1 .. أيام الهروب من حرب السودان

وبينما، ضحك البعض وازداد حماسهم كلما اقتربوا من السودان، وسيطر الإرهاق والنوم على آخرين، كان "ياسر" يتحدث ثم يصمت فجأة، شارد الذهن في أغلب الوقت. فظل يفكر أن الأمر بالنسبة له ولنحو 115 ألف شخص عادوا إلى السودان من مصر منذ يناير 2024 وحتى الأسبوع الأول لهذا الشهر (وفقًا للمنظمة الدولية للهجرة IOM)، "هذه عودة غير مضمون نتائجها"، حسب وصفه.

الليلة الماضية

مَشى "ياسر" نحو خمسة عشر دقيقة من بيته المستأجر في منطقة فيصل (محافظة الجيزة) باتجاه محطة انتظار الحافلات، حيث تستقر حافلة ستأخذه إلى السودان. وعلى امتداد الصف، امتلأ المكان بالسودانيين الراغبين في العودة، بعضهم يجلس على حقائب وآخرون يقفون في دوائر، وحولهم الكثير من الأكياس البلاستيكية الملونة والمبعثرة.

نحو 900 جنيه مصري، دفعها "ياسر" لينضم إلى تلك الرحلة، التي تتولاها واحدة من شركتين سياحيتين بارزتين فيما يخص الرحلات إلى السودان، وقد ملأت منشوراتهم صفحات ومجموعات السودانيين المقيمين في مصر على منصات التواصل الاجتماعي. فينقسم "السعر المعلن" إلى 700 جنيه قيمة التذكرة من القاهرة إلي أبو سمبل، ثم 200 أخرى من أبو سمبل إلي معبر أشكيت.

وهناك أكثر من مبادرة تأخذ عناوين وشعارات أخرى منها "العودة الآمنة إلى السودان"، التي توفر تذاكر بأسعار مناسبة للمحتاجين، خاصة أصحاب الإعاقات، و"راجعين إلى بلد الطيبين"، وهي مجانية، فتدعمها السفارة السودانية ويمولها رجال أعمال سودانيون، وفقا لمؤسسها، محمد سليمان.

1

وهذا النوع من الرحلات بدأ بوتيرة ضعيفة قبل شهر رمضان الماضي، ما بين 10 إلى 15 حافلات يوميًا (حسب وكالة الأنباء السودانية)، ثم تضاعفت الأعداد بعد عيد الفطر، حتى وصلت مع مبادرة "سليمان" مثلا إلى نحو 200 حافلة يوميًا خلال الشهر الجاري. وصارت كل شركة تدفع برحلات لثلاثة أيام بالأسبوع، ويمكن حجزها حتى قبل يوم واحد من السفر.

ربما ما جعل أمر الشركات مغريًا لـ"ياسر" أكثر من أي مبادرة أخرى، هو إعلانها بشكل واضح أنهم "لا يحتاجون لأي أوراق بالنسبة للأشخاص القادمين بطريقة غير قانونية، باستثناء ما يثبت الجنسية السودانية".

يرى الرجل أن ذلك "أكثر أمانًا بالنسبة له". فمثل كثيرين، جاء "ياسر"، الذي كان يعمل مع إحدى شركات النقل بالسودان، بطريقة غير شرعية إلى مصر، من بورسودان إلى أسوان برًا. قضى حينها ثلاثة أيام بالصحراء في رحلة يصفها بأنها "رحلة موت".

لم يكن بأي حال يتوقع أن ينجو، وإن نجا، لم يتوقع أن يعود مرة أخرى.

انقطع استغرابه وتردده أيضًا مع انطلاق حافلته نحو أسوان، في طريق استغرق نحو 12 ساعة، حتى وصلت إلى معسكر أبو سمبل، ليبقى من فيها باستراحة هناك لساعات حتى يأتي دورها بالعبارة النيلية التي ستصل بها إلى معبر أشكيت بالناحية الأخرى.

ساعات الانتظار طالت وسمحت لـ"ياسر" أن يستخدم المرحاض والذي لم يكن متوفرًا لمدة طويلة بالطريق، ثم يستريح ليسترجع ما جرى ببلده خلال عامين، والذي "لايزال غريبًا وغير مفهوم له" حتى الآن، كما يقول.

منذ تلك اللحظة التي دوي فيها صوت إطلاق النيران لأول مرة بالحرب في العاصمة السودانية وغطت الأدخنة السوداء الأفق، وانطلقت الشظايا بكل ناحية، ثم تغير مجرى كل ما سيأتي بعد ذلك.

لا أحد كان يدرك أن حربا اندلعت بين الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو المعروف بـ"حميدتي". وحين أدرك "ياسر"، غادر في الشهر الأول إلى مصر مع والدته وإخوته.

طوال عامين، لم ينفصل يومًا عن أخبار المعارك الدائرة ببلده، التي أدت إلى مقتل أكثر من 40 ألف شخص، وفرار ما يقرب من 13 مليون شخص من ديارهم، كما تشير تقديرات الأمم المتحدة، غير فقدان عدد لا حصر له، تقدره المجموعة السودانية للدفاع عن الحقوق والحريات بنحو خمسين ألف مفقود، وتوثق منظمات حقوقية سودانية ما لا يقل عن 3 آلاف حالة.

بخلاف انتهاكات أخرى كتدمير مناطق سكنية، وطرد المدنيين من منازلهم، والاغتصاب الجنسي، والتجنيد القسري للشباب، يعددها رضوان نويصر (خبير الأمم المتحدة المعني بالسودان)، وهو ما جعله يقول إن "المدنيين هم من دفعوا ثمن هذه الحرب التي لا معنى ولا مبرر لها".

كان "ياسر" غارقا بين كل تلك الأحداث وأعباء الحياة في مصر كتدبيره لإيجار الشقة التي يسكنها والذي يبلغ 5 آلاف جنيه. فلجأ إلى بعض الأعمال حرة، والجزء الأكبر ساعده فيه أحد أفراد أسرته يعمل بأمريكا.

لكن تزايد الضغوط الاقتصادية في مصر كانت ضده أيضًا. فأظهرت له مواقف عدة، كما يحكي، "المصريون حملوا السودانيين القادمين مشكلة ارتفاع الأسعار، تحديدا العقارات والإيجارات". هذا غير نقص تمويل المفوضية السامية لشئون اللاجئين وتقليص خدماتها، ثم مشكلة إغلاق المدارس السودانية لحين استيفائها الشروط المعلنة من جانب الحكومة المصرية، وتطبيق قانون جديد للجوء.

فانتهز "ياسر" فرصة العودة بمجرد أن تحولت الكفة لصالح الجيش السوداني، المسيطر على معظم شمال وشرق البلاد، وتراجع قوات الدعم السريع شبه العسكرية، التي تحكم قبضتها على معظم منطقة دارفور الغربية وأجزاء من الجنوب، ودعوة الحكومة من فروا إلى "العودة والبناء".

في نفس الوقت، انهالت أمامه منشورات وإعلانات للرحلات، بل وإن الخطوط الجوية الوطنية بالسودان (سودان أير) أطلقت مبادرة للعودة هذا الشهر وتشمل تخفيضات 50% لعدد 50 مقعداً في كل رحلة.

فيقول "ياسر"، بعينين زائغتين، وهو يسند على الحائط باستراحة بمنطقة أبو سمبل: "أنا مضطر في الحالتين، حين جئت وحين عدت.. هنا الظروف ليست جيدة، وهناك الظروف ليست جيدة أيضًا.. لكن الأولى أن يكون الشخص ببلده، وربما يعود إلى عمله وحياته".

إنفوجرافيك

طالت الساعات، وازدادت المنطقة ازدحاما حوله، والسبب كما يذكره السفير عبد القادر عبد الله محمد (القنصل العام للسودان في محافظة أسوان)، "عدد كبير من الحافلات الناقلة للسودانيين من القاهرة والإسكندرية إلى أسوان وصلت في وقت واحد، وكانت أكثر بكثير من عدد العبارات النيلية التي ستواصل نقلهم من أبو سمبل إلى المعبر".

صاح السائق، ليخبر الجميع أن يصعدوا إلى الحافلة مجددًا، جمع أوراقهم ليسلمها مرة أخرى عند المعبر.. لم يكن "ياسر" وحده الذي سيمر دون أوراق قانونية، مثله كثيرون، يقول القنصل العام: "السلطات المصرية سهلت عودة هؤلاء، حيث أعفت العائدين من الغرامات والمساءلة القانونية".

وكانت حافلة "ياسر" الأخيرة قبل أن يمتلأ معبر أشكيت عن آخره بالحافلات على مد البصر. فتحولت حافلات أخرى على دفعات إلى معبر أرقين، المنفذ الحدودي الثاني بين مصر والسودان، بحسب القنصل العام للسودان ومسؤولي مبادرات العودة.

2

في مساء الليلة الثانية بالطريق، لا شيء يفعله "ياسر" وهم ينتظرون بالمعبر سوى الاشتراك بالحديث الدائر في الحافلة.. الجميع كان يتكلم فيما ينتظرهم خلف هذه الأسوار التي باتت قريبة جدًا.

تتفاءل إيمان أحمد (52 عامًا)، "بأنها ستعمر منازلها المدمر مرة أخرى". وتتعشم "مروة" في صدق كلام جيرانها عن "أن الوضع هنا أصبح آمنًا بخلاف السابق". وبعكسهما، ينقل "ياسر" أراء آخرون يعرفهم ولازالوا باقين في مصر مثل صفاء حسن (العاملة في منظمة لمساعدة السودانيين)، والتي تقول: "بالنسبة لي ولأغلب عائلتي، لن نعود الآن على الأقل، الظروف ليست آمنة، واليوم علمت من صديقتي مقتل جدها وخالها في منطقة بين أم درمان والخرطوم"، على الرغم أن شقيقها يعمل في مكتب سفريات لرحلات العودة، ويعيد كل يوم ما بين 15 لـ20 حافلة.

كذلك إسراء الريح، الشابة العشرينية، التي تهوى التصوير وتشتت عائلتها.. "فلا ترى بصيص أمل في السودان، ولا حياة أفضل في مصر"، كما تحكي، فتعمل على التقديم لمنح بدول خليجية وأوروبية.

وجمت الوجوه قليلا، لكن لا فرصة للتراجع الآن.

نزل "ياسر" ومن معه إلى منطقة وادي حلفا. هنا انتهى دور هذه الحافلة، وبات عليهم أخذ وسيلة مواصلات أخرى. كانت الوسائل قليلة وعالية الثمن.. انتظرها "ياسر" كثيرًا حتى وجد إحداها وكلفته ضعفين ثمن رحلته من مصر.

ومن وسيلة إلى أخرى، ومن ارتكاز أمني إلى آخر، ظل "ياسر" بالطريق يومين آخرين على الأقل "بسبب الوضع الأمني"، حسب كلامه. وذكر باقتضاب أن "جميع المحادثات على هاتفه تم مسحها"، ولم يوضح سبب ذلك.

في أجواء حارة معتادة، قطع شوارع مليئة بالحطام وسواتر ترابية، تشير في كل شبر منها إلى صراع ترك بصماته، حتى أنه وجدها في بيته الذي نُهب كل محتوياته، وبالكاد تبقت جدرانه على حالها. لكنها مليئة بالثقوب.

فيقول: " لم تكن مدينتنا بهذا الدمار من قبل".

عاد "ياسر" إلى واقع ينقصه الأمن والخدمات والكهرباء والغذاء، إلى أسواق مخربة كسوق أم درمان الكبير، إلى محال محروقة وأطلال أبنية، وإلى سكون قاس ومخيف يخيم على شوارع كانت تضج بالحياة، ولو أن كثيرًا من شوارع الخرطوم تجتهد لتعود إلى طبيعتها.

وفي أسفل كل ذلك، يخفي له واقع ما بعد الحرب خطرًا آخرا، وهو الذخائر غير المنفجرة، "التي يمكن أن ينفجر الكثير منها بأدنى لمسة أو حركة"، كما ينبه صديق راشد (رئيس برنامج الأمم المتحدة للأعمال المتعلقة بالألغام في السودان)، فيقول: "الأمر مقلق للغاية، هذه الذخائر ستكون موجودة في المنازل وفي الساحات، بعضها سيكون مرئيا وبعضها غير مرئي، وبعضها سيكون مختلطا بالأنقاض.. الخوف من ذلك سيزداد مع عودة الناس والبدء في تنظيف منازلهم وتجهيزها للإقامة والعيش فيها".

يتلمس "ياسر" بحذر وضع، كل شيء به على المحك في ظل سلسلة من المخاوف، أولها العيش بأمان، وثانيها تقسيم جديد بعد حديث قوات الدعم السريع عن تشكيل حكومة موازية، وثالثها قلق العودة إلى نقطة الصفر، الذي يذكيه تصريحات قائد قوات الدعم السريع "بأنهم سيواصلون القتال بالرغم من الهزائم العسكرية"، ورد قائد ورئيس مجلس السيادة "بأنه لا يقبل سوى باستسلامهم".

فأرسل إلى أسرته في مصر، الذين لم يتجاوزوا المعبر مثله، لينقل لهم الوضع بكلمات غير مرتبة، وربما هي الأنسب لما يشعر به أو يراه: "الواقع في السودان غير مفهوم، إننا غير واثقين إننا نعيش في أمان، الوضع غامض ويمكن أن يشتعل.. الدعم السريع صحيح يُهزم لكن هناك حركات مسلحة أخرى تظهر.. لا أعرف".

اقرأ أيضا:

عوالم النازحين إلى مصر| "ليست مجرد أماكن.. هنا هويتنا"

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان